فضاء حر

السعودية ومبادرة اكتمال العبودية وثقافة الفقر

يمنات

محمد ناجي أحمد

أحالت السعودية طيلة العشر السنوات المنصرمة اليمن إلى مقابر جماعية عديدة، بواسطة أدواتها الطائفية العديدة في تعز وصنعاء وعدن ومأرب الخ.

كان بإمكانها تفكيك اليمن وتوزيعها بين أدواتها المحلية دون هذه الكلفة من الدمار، لكنها استهدفت تمزيق الوطنية الاجتماعية قبل أن تستهدف تمزيق الجغرافيا.

لقد أحالت اليمن إلى مقبرة كي تنعم بالسلام الدائم. وها هي اليوم تعلن مبادرتها “للسلام” بين “أمراء القبور” وليس غريبا أن يصحب هذه الحرب ضد المجتمع اليمني وإعلان “مبادرة السلام” تدمير التعليم والصحة والتنمية وإفقار المجتمع، بما في ذلك إيقاف رواتب الموظفين وتجويعهم لسنين عديدة، وإفقار المجتمع، بما في ذلك إيقاف رواتب الموظفين النازحين لتتضاعف مآسيهم، نزوحا وجوعا!

“ثقافة الفقر” وسيلة وغاية من غايات هذه الحرب. عودة المجتمعات إلى محليتها وانتماءاتها ما قبل وطنيّتها الجامعة هدف من أهداف هذه الحرب. تسييج المناطق والقرى والجهات والمذاهب بأسوار الهويات القاتلة هدف من أهداف هذه الحرب.

أمراء الحرب المحليون ذراع السعودية في اليمن، والحديث عن تسوية بينهم مهزلة سوداء، فهم ليسوا خصوما، إنهم ينجزون وظيفة واحدة في إفقار الشعب اليمني وتمزيق وحدته الوطنية وسلب سيادته.

لن يتحقق السلام لليمنيين مالم يهدموا أسوار مقابرهم، ويبعثوا وطنيتهم ويحددوا عدوهم وفق استراتيجية وطنية وحدوية تخرجهم من الارتهان لمليشيا السعودية في اليمن، استراتيجية وطنية وحدوية يسقطون من خلالها كل أقنعة الطائفية، وتراكم استثماراتها كلما اتسعت مقابر اليمنيين.

للجمهور فكرة متعالية للآلهة، هي من ينبغي إسقاطها، إن أردنا تحرير ذواتنا من تحيزاتها القاتلة.

في خمسينيات مصر جمال عبد الناصر كانت مهن الطبقة الوسطى هي النموذج الذي يطمح إليها أفراد المجتمع، لذلك كانت الأفلام المصرية تردد لازمتها الطبقية “مهندس أد الدنيا”.

في اليمن لا زلنا بسبب ركود التحولات الاجتماعية والاقتصادية نتداول مصطلحي “سيد” و”شيخ”.

سنجد صحفيا بارزا في حضوره يردد دوما أنه “ابن الشيخ” سيقول لنا إنه كلما التقى بالشاعر والمثقف أحمد قاسم دماج، ناداه الشيخ أحمد قاسم بـ: “يا ابن الشيخ… أنا الشيخ وأنت ابن الشيخ” وابن الشيخ هذا كان أبوه من أعمدة نظام سلطة أحمد حسين الغشمي والرئيس علي عبد الله صالح، وطمس معالم مرحلة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، بما هو رئيس لسلطة الشعب!

عندما قتل أحمد حسين الغشمي يذكر لنا الأستاذ الشيخ يحيى منصور أبو اصبع العديد من مشايخ تعز الذي ورثهم الرئيس علي عبد الله صالح بعد عديد أشهر رئاسة أحمد حسين الغمشي. من الشيخ البحر في ماوية إلى الشيخ “قاسم بجاش” في “كدرة قدس”.

في حالة متقدمة على هذه الثنائية نجد اليساريين حين ينتكسون نحو انتمائهم العائلي يتحدثون عن الأب تاجر التجزئة، فيعيدون تخيله بكبير تجار تعز، “شهبندر التجار” ومن كان أبوه فقيها يكتب عقود الزواج والبيع والشراء يتم إعادة تخيله كبيرا للقضاة.

هذه الاستيهامات والتخيلات تعكس ليس الركود الاجتماعي وعودته إلى أزمنة ماضوية بدوية وقروية، لكنها تعكس كذلك تجلي البداوة والترييف؛ أي أن تحولات الحداثة لم تتجاوز السطح، وأن قدرا بسيطا من الرياح تجلي البداوة الكامنة فينا.

إنها تخيلاتنا عن أنفسنا المشدودة لأنساق اجتماعية تراتبية، لا تقوم على المواطنة المنتجة، والوطن الوحدوي، وإنما على إرث المكانة الاجتماعية الموروثة واقعا أو تضخما متخيلا!

يستوي في ذلك الناشطة الحقوقية والنسوية التي تتحدث عن جدها “القاضي الشرعي” وتعيد تخيله كـ”نائب لحاكم لواء تعز” في أربعينيات القرن العشرين- والمثقف اليساري الذي تتضخم لديه صورة أبيه في اربعينيات القرن العشرين فيصبح شهبندر التجار” كبير تجار تعز” والشاعر الحداثي الذي كان ابوه فقيها، فأعاد تخليقه في الذاكرة قاضيا في منطقة عنس، والصحفي الذي تَنَقَل في ألقابه بين الخولاني واللوزي والهادي وفقا لتحولات السلطة ومرتكزها وحاملها ، كذباب يتنقل أينما وجد منفعة قذارته ففيها ربحه!

هذه الارتدادات المتبدية “من البداوة” في سياق عودة المجتمعات المحلية إلى أوهام المنطقة والمذهب والجهة، في مواجهة أوهام مقابلة تشكل خطرا عليها، ومتخادمة معها- تصبح أكثر مراودة وحضورا في المشهد الاجتماعي الذي سقطت فيه الدولة كمشروع حداثي، وانفلت العنف الفردي والجماعي من عقاله، ليس كنتاج تاريخي اجتماعي فحسب بل ومنتج ثقافي، يجد معززاته في العنصرية الاجتماعية والعرقية والمذهبية التي تعلي من النسب والنهب، محتقرة للإنتاج والمهن.

هنا تكون الحرب حرفة للنهب والوهب البدوي في آن، ومصدرا للتحيزات ما قبل الحداثة كمشروع تغيير ثوري اجتماعي وسياسي.

كان أبي لديه التزام عقائدي تجاه العمل والصلاة، كلاهما تعبد مقدس لديه. لم يتخل عن عمله وطقوس صلاته يوما، أكان في سفر أو مرض، وحين مات فجرا كان ساجدا فوق سجادته.

عمل أبي في مهن عديدة ومتزامنة. في الصيف عمل في الأرض بقريته وفي الشتاء عمل مع أبيه في رصف شارع جولدمور بعدن، وفي أواخر ثلاثينيات القرن العشرين عمل في دكان جده بـ”سوق زريد بقدس” وفي أواخر أربعينيات القرن العشرين عمل في عدن طباخا وخبازا، ثم ارتحل نحو السعودية والخليج، ليعمل في خمسينيات القرن العشرين “أسطى” معلم بناء، وكلما ادخر مبلغا بحث عن حيويّاته يتحسسها في مصر ولبنان والبحرين.

وحين قامت ثورة 26 سبتمبر كان في مصر و عاد إلى صنعاء بعد ثورة الناس 26 سبتمبر. عمل في العديد من المهن، وفي منتصف عقد السبعينيات من القرن العشرين التحق موظفا في مشروع المياه بتعز ، وحين تقاعد كان رئيسا لقسم القراء في مشروع المياه.

في حقبة سبعينيات إبراهيم الحمدي كانت بدلته الزرقاء وعيد العمال، وساعة الحمدي الذي أعطاه إياها في أحد أعياد العمال رسما ونحتا لانتماء الرئيس إبراهيم الحمدي للعامل أبي وللفلاح أبي ولصاحب المهن معلم البناء أبي، والعامل في مهنة ضرب الحقن أبي، وقارئ الصحف العربية، والمثابر على قراءة الصحف المحلية، ومدمن الإذاعات العالمية.

أبي الذي تعلم في صفوف محو الأمية ثم استمر في محو أميته الثقافية، حتى أن لغته الانجليزية كانت تتفوق على تحصيلي العلمي. كانت مسيرة حياته التزاما لوطنيّته الكادحة وعروبته. لم يتغيب يوما عن عمله وعن أداء طقوس صلواته، حتى مات على سجادته ذات فجر تبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود.كان تقديس العمل لديه دِين ومصدر حياة في آن.

يبني فالح عبد الجبار على خلدونية المفكر الاجتماعي علي الوردي، أن ضعف الدولة وضعف الحواضر يجعل القيم البدوية، قيم الثأر والغزو والعصبية الضيقة تنتقل إلى الحواضر وتتحول إلى عناصر تماسك محلي. لطالما استذكرنا أثناء الحرب اللبنانية هذه الروح البدوية، والنهب والغزو والثأر وخضوع كل جماعة لحاميها الخاص؛ ميلشياها، لطالما وجدنا في استضعاف الدولة فيما بعد وتناهبها والاتجار بها مظهرا آخر لهذه الروح. من مقدمة عباس بيضون ص10- في الأحوال والأهوال- المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف- فالح عبد الجبار- الطبعة الأولى- بيروت2008-الفرات للنشر والتوزيع.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى